سلطة رام الله- وهم السيادة وتآكل النفوذ في غزة والضفة

المؤلف: عريب الرنتاوي08.26.2025
سلطة رام الله- وهم السيادة وتآكل النفوذ في غزة والضفة

لا تفوّت السلطة الفلسطينية أي فرصة أو اجتماع دون أن تعرب عن تمنياتها الحثيثة بالعودة إلى ممارسة "سيادتها" الكاملة على قطاع غزة، وتؤكد استعدادها التام لتحقيق هذه الغاية.

في الأوضاع الاعتيادية، يُعد هذا الموقف منطقيًا ومبررًا بشكل كبير، إذ لا تكتمل السلطة إلا ببسط نفوذها على جميع أراضيها، والقدرة على احتكار السلاح في يدها، وتطبيق القانون على الجميع دون أي استثناء.

ولكن، في ظل الواقع الفلسطيني الحالي، يثير هذا الطرح سيلًا من ردود الأفعال الساخرة، وتساؤلات وتعجبات أكثر حول "الدوافع" و"المرامي" الخفية والأهداف الكامنة وراءه.

فالسلطة التي تعجز عن ممارسة سلطتها حتى على "عاصمتها المؤقتة"، فضلًا عن بقية مناطق الضفة الغربية و"العاصمة الأبدية"، لا يمكنها الادعاء بقدرتها على فرض سيطرتها على القطاع "النائئي" نسبيًا والمنفصل جغرافيًا.

والسلاح الذي لم يستخدم قط لحماية الفلسطينيين، على الأقل منذ عقدين من الزمن، لا يخضع لمبدأ "الحصرية"، فالهدف الأساسي من "حصرية السلاح" هو تمكين الدولة (أو السلطة في الحالة الفلسطينية) من حماية شعبها وردع أعدائها وتحرير أرضها (أو ما تبقى منها).

والسلطة في الواقع الفلسطيني ليست دولة بالمعنى الكامل، بل تحولت في السنوات الأخيرة إلى ما دون "حكم ذاتي محدود". والأهم من كل ذلك، أن وهم "السلطة" ورموزها السيادية، من علم وبساط أحمر ومقرات رئاسية وحكومية، لم يمحِ حقيقة أن الشعب الفلسطيني لا يزال يناضل من أجل التحرر والاستقلال الوطني، وأن تحقيق "الدولة المستقلة" على الأراضي المحتلة عام 1967 أصبح أبعد من أي وقت مضى.

هذه، على أي حال، مجرد أطروحة نظرية عامة، ولن تتضح أبعادها السياسية المختلفة إلا بالانتقال إلى مستوى أدنى من التحليل، من العام إلى الخاص. وهنا ننتقل إلى سؤال محوري آخر: ما الأدوات و"الرهانات" التي اعتمدت عليها السلطة وبنت عليها "رغبتها" و"استعدادها" لإنجاز هدف كهذا؟

لو أنها بادرت منذ بداية الأحداث إلى "تجميع" الصف الفلسطيني، وانخرطت في المبادرات التي سعت لتوحيد الموقف الفلسطيني تحت مظلة منظمة التحرير الفلسطينية وفي إطار حكومة وحدة وطنية، لكانت الرغبة مشروعة والاستعداد واقعيًا.

ولكنها اختارت بدلًا من ذلك سياسة معادة للمقاومة بفصائلها المتنوعة، وتبنت نهج التفرد والانفراد بالقيادة (وغالبًا على حساب القاعدة العريضة لحركة فتح نفسها)، وسعت إلى تقويض أذرع المقاومة في الضفة الغربية بالتناوب مع قوات الاحتلال "لإخماد بؤر التوتر في الضفة".

ولم تتردد في تقديم العون والمساندة لعملاء في قطاع غزة قبلوا العمل تحت إشراف الجيش الإسرائيلي وبتوجيهاته وتسليحه، كما تجلى في ظاهرة "ياسر أبو شباب"، ومحاولات استنساخها في شمال غزة، وقبل ذلك في محاولات "التسلل" عبر شاحنات الإغاثة بالتنسيق المسبق مع "الشاباك" وأجهزة أمنية عربية.

سلطة كهذه لا يحق لها، ولن تكون قادرة، لا على بسط سيادتها على قطاع غزة، ولا حتى على الحفاظ على "سيادتها" الهشة في الضفة الغربية. وإنكار السلطة لتورطها في دعم حركة "أبو شباب" يناقضه الأخير علانية ودون مواربة، عبر إذاعة إسرائيلية، مؤكدًا أنه يعمل لصالح جيش الاحتلال وبالتنسيق مع السلطة.

"إمارة الخليل"

بغض النظر عن مدى جديتها، وعن طبيعة الشخصيات التي تقف وراءها، فإن مشروع "إمارة الخليل" الذي ظهر مؤخرًا، والذي يمثل الوجه الآخر لظاهرة "أبو شباب"، وإن في سياقات مختلفة، يعكس التدهور المتسارع لمكانة السلطة الفلسطينية في "عقر دارها"، في المناطق المصنفة (أ) و (ب)، ويشهد على "زيف السيادة" وحدودها الضيقة، ويجرد السلطة من ادعائها "الاستعداد" لإدارة غزة وإخضاعها لسيطرتها.

قد تبدو فكرة "الإمارة" في الخليل غير جدية، وقد يشكك الكثيرون في وزن ومكانة و"تمثيل" القائمين عليها، بيد أن آخرين يخشون من سيناريو "كرة الثلج" التي تكبر كلما تدحرجت في الفراغ، والفراغ السياسي والوطني والأخلاقي الذي تعاني منه السلطة، والذي سمح بالتطاول عليها والتجرؤ على المشروع الوطني، سيؤدي، إذا استمر الوضع على ما هو عليه، إلى استمرار هذه الظاهرة، وربما تكاثرها واستنساخها في مدن أخرى.

قد يقول قائل، وهو محق بالطبع: ابحث عن أصابع الاحتلال. ولكن هذه الأصابع لم تتوقف عن العبث يومًا، فقد سعت إسرائيل دائمًا إلى "تأهيل" قيادات محلية بديلة لمنظمة التحرير الفلسطينية، وتجربة روابط القرى خير شاهد على ذلك، وهي التجربة التي وأدتها الحركة الوطنية الفلسطينية في مهدها، قبل أن ترى النور.

في الضفة الغربية، لم يشفع للسلطة "تنسيقها الأمني" ولا خذلانها لغزة ومقاوميها في مواجهة اليمين الفاشي المتجذر بعمق في مؤسسات الحكم والمجتمع الإسرائيلي.

إنهم يعملون جاهدين على تقويض السلطة وتدمير ما تبقى لها من مصداقية، وهم اليوم يعلنونها صراحة: سنعمل على إقامة ثماني "إمارات فلسطينية غير موحدة" في الضفة الغربية، وذلك في إطار مشروع "روابط المدن" هذه المرة. وعلى أولئك الذين يراهنون على قبول إسرائيل عن طيب خاطر بقيام سلطة وطنية على كامل الأراضي المحتلة، في الضفة وغزة، أن يفيقوا من أوهامهم وتوقعاتهم الخائبة.

أما في غزة، وخلال الحروب المتكررة على القطاع وسكانه ومقاومته، فقد سعت إسرائيل بشتى الطرق للبحث عن بدائل لحماس والمقاومة، ولكنها لم تجدها، لا بين العشائر والعائلات الفلسطينية، ولا بين الطبقة الهشة من التجار ورجال الأعمال.

وحاول المستوى الأمني الإسرائيلي تمكين نظيره الفلسطيني من التسلل إلى القطاع وإنشاء موطئ قدم له في عمقه، ولكن دون جدوى، إلى أن اهتدت تل أبيب إلى رموز إجرامية متورطة في تجارة المخدرات وتعاطيها، وبعضهم من أصحاب السوابق المرتبطة بجماعات متطرفة مارست العنف المسلح، لتصنيع هذا البديل.

ولكن غزة التي صمدت في وجه أعنف حروب الحصار والتطهير والإبادة، وأظهرت مقاومتها قوة وصلابة في مواجهة العدو وتوجيه أقسى الضربات لجيشه وأمنه، عرفت كيف تتعامل مع هؤلاء، وكيف تكشفهم بأسمائهم الحقيقية، وكيف تنزع عنهم غطاء عائلاتهم وعشائرهم، تمهيدًا لقرار "غرفة العمليات" بإخراجهم عن "ملة الوطن".

مثل هذا الموقف الحازم لم يصدر عن رام الله حتى الآن، وليس من المتوقع أن يصدر في المستقبل القريب، أو أن يتخذ بعدًا عمليًا للتصدي لهذه الظاهرة واقتلاعها من جذورها.

لقد اختفت من تصريحات المتحدثين باسم السلطة تلك اللهجة النارية التي اعتدنا سماعها منهم وهم يتناولون تنامي ظاهرة "الكتائب" و"العرين" في مختلف أنحاء الضفة الغربية، لتحل محلها لغة "عقلانية" شديدة "الواقعية" و"الحرص على النسيج الاجتماعي" عند تناولهم لمشروع "الإمارة".

لم تكن "حماية" الأراضي من أطماع الاحتلال حاضرة في قاموسهم وهم يتحدثون عن مخيمي جنين وطولكرم، كما هي حاضرة اليوم وهم يتهامسون حول البيان "المعلل" و"المسبب" الذي أعلن مطلقه نيتهم إنشاء "الإمارة".

إن ظاهرة "أبو شباب" في غزة لن تدوم طويلًا بعد بيان "غرفة العمليات"، وأعتقد أن فترة الهدنة المحددة بستين يومًا قد تشهد تصفية الحساب مع أذرع الاحتلال وأدواته الجديدة في شمال القطاع وجنوبه.

ولكن الخشية الحقيقية تتركز على الضفة الغربية التي تخضع لضغوط واستهدافات مركبة: نتنياهو واليمين المتطرف ومشاريع الضم والاستيطان المتسارع، وترامب و"صفقة القرن 2"، وسلطة عاجزة ومتآكلة إلى الحد الذي يجعل مشروع تلك "الإمارات غير الموحدة" تهديدًا لا يجوز الاستهانة به، خاصة وأنه يلقى دعمًا من قوى إسرائيلية نافذة ومتربصة.

وعلى أولئك الذين اعتقدوا وراهنوا على أن إضعاف المقاومة على أيدي أعداء شعبهم سيعزز مكانتهم ويقوي نفوذهم، أن يدركوا اليوم، قبل فوات الأوان، أنهم كتبوا نهاية وجودهم بأيديهم، قبل أن يصدروا بيانات النعي للمقاومة وخياراتها.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة